بحث حول التيارات الأنثروبولوجية (التيار الثقافي)

Hassouni Mohamed

رئيس مجلس الإدارة
طاقم الإدارة
المشاركات
4,373
مستوى التفاعل
924
النقاط
113
بحث حول التيارات الأنثروبولوجية (التيار الثقافي)
بحث حول التيارات الأنثروبولوجية (التيار الثقافي)
المقدمة:
تعتبر الأنثروبولوجيا من العلوم الاجتماعية التي تدرس الإنسان في مختلف أبعاده. تتناول الأنثروبولوجيا موضوعات مثل الثقافة، اللغة، المجتمع، والتفاعلات بين الأفراد ضمن سياقات اجتماعية مختلفة. من بين التيارات التي ظهرت في مجال الأنثروبولوجيا، يبرز التيار الثقافي الذي اهتم بتفسير سلوك الإنسان من خلال ثقافته، وركز على مفهوم الثقافة كمحور أساسي لفهم تصرفات الأفراد والجماعات.

يرتكز التيار الثقافي على فكرة أساسية مفادها أن الإنسان لا يُولد مع مجموعة من الغرائز البيولوجية التي تحدد سلوكه بشكل حتمي، بل تتشكل سلوكياته من خلال الثقافة التي ينشأ فيها. ومن هنا، نشأت العديد من الدراسات الأنثروبولوجية التي ركزت على دراسة المعتقدات، العادات، القيم، والممارسات الاجتماعية باعتبارها أساسًا لفهم سلوك الإنسان في المجتمع.

المبحث الأول: مفهوم التيار الثقافي في الأنثروبولوجيا
المطلب الأول: تعريف التيار الثقافي
التيار الثقافي في الأنثروبولوجيا هو التوجه الذي يركز على الثقافة باعتبارها العامل الرئيس في تحديد سلوك الإنسان في المجتمع. الثقافة تشمل جميع القيم والمعتقدات والرموز والأنماط الاجتماعية التي تميز مجتمعًا معينًا عن غيره. يعترف التيار الثقافي بأن الثقافة تتغير وتتطور باستمرار، وأنها لا تقتصر على العادات والممارسات اليومية، بل تشمل أيضًا اللغة، الدين، الأساطير، والفنون.

التيار الثقافي يختلف عن التيارات الأخرى مثل التيار المادي أو الوظيفي، حيث أن هذه التيارات كانت تركز على تفسير السلوك البشري من خلال العوامل المادية أو الوظائف الاجتماعية، بينما يعترف التيار الثقافي بتأثير الثقافة العميق في تشكيل السلوك والتفاعل الاجتماعي.

المطلب الثاني: الأسس الفلسفية للتيار الثقافي
التيار الثقافي يرتكز على بعض الأسس الفلسفية التي تساعد على تفسير سلوك الإنسان في المجتمع بناءً على الثقافة التي ينتمي إليها. هذه الأسس تتمثل في:

النسقية الثقافية: يرى التيار الثقافي أن الثقافة تشكل نظامًا مغلقًا، أي أنها مجموعة من الأنماط والعادات التي تعمل معًا لتشكيل هوية جماعية. تفاعل الأفراد مع الثقافة يكون محصورًا ضمن هذا النظام الذي يحدد سلوكهم.

النسبية الثقافية: إحدى أهم المبادئ التي يقوم عليها التيار الثقافي هي مبدأ النسبية الثقافية، الذي يعني أن الفهم الكامل لسلوك الأفراد لا يمكن أن يكون إلا من خلال ثقافتهم الخاصة. ما قد يُعتبر سلوكًا غير مقبول في ثقافة معينة قد يكون طبيعيًا في ثقافة أخرى.

الرمزية والمعنى الثقافي: الثقافة تحتوي على مجموعة من الرموز التي تحمل معاني خاصة للمجتمع، مثل اللغة، المعتقدات الدينية، والأساطير. وهذه الرموز ليست فقط وسائل للتواصل، بل تمثل أيضًا معايير وقيم اجتماعية.

المطلب الثالث: الفرق بين التيار الثقافي والتيارات الأخرى
التيار الثقافي يختلف عن التيار المادي والتيار البيولوجي في أنه لا ينظر إلى الإنسان ككائن مادي أو بيولوجي بحت. بينما تركز هذه التيارات على دراسة الإنسان من خلال العوامل المادية (مثل الوراثة أو البيئية) أو من خلال الوظائف الاجتماعية، فإن التيار الثقافي يركز على دراسة الرموز والمعتقدات والقيم التي تحدد كيف يفكر الإنسان وكيف ينظم علاقاته داخل مجتمعه.

المبحث الثاني: تطور التيار الثقافي في الأنثروبولوجيا
المطلب الأول: التأثيرات الأساسية على التيار الثقافي
التطورات في اللسانيات: كان لتطور اللسانيات، وخاصة أعمال فرديناند دي سوسير، تأثير كبير على التيار الثقافي. سوسير قدّم مفهوم اللغة كأداة رمزية تساهم في بناء الثقافة وتشكيل الهوية. الأنثروبولوجيون الثقافيون استخدموا هذا الفهم للغة لدراسة كيفية تأثير اللغة على فهم الثقافة.

ظهور البنيوية: تأثرت الأنثروبولوجيا الثقافية بـ البنيوية، التي طرحها كلود ليفي شتراوس. وفقًا للبنيوية، الثقافة لا تتألف من كيانات مستقلة، بل هي بنية مترابطة تحتوي على رموز ودلالات يتم تحليلها للكشف عن الأنماط الثقافية التي تنظم الحياة الاجتماعية.

الاهتمام بالثقافات المحلية: بدأ علماء الأنثروبولوجيا الثقافية في دراسة الثقافات الصغيرة أو القبلية، معتبرين أن فهم الثقافة يتطلب دراسة الأنماط المحلية في سياق اجتماعي معين، بعكس الأنثروبولوجيا القديمة التي كانت تركز على دراسة الثقافة كظاهرة عالمية.

المطلب الثاني: أبرز الشخصيات التي أسهمت في التيار الثقافي
مالينوفسكي (Bronislaw Malinowski): كان مالينوفسكي من أوائل علماء الأنثروبولوجيا الذين درسوا المجتمعات من خلال دراسات ميدانية. اعتبر أن الثقافة هي مجموعة من الأنماط التي تضمن بقاء المجتمع، وركز في دراسته على التفاعلات بين الأفراد والبيئة الاجتماعية.

كلود ليفي شتراوس (Claude Lévi-Strauss): يُعتبر ليفي شتراوس من مؤسسي البنيوية الثقافية. وقد طرح فكرة أن العقل البشري يطبّق بنية معينة على الثقافة لفهم العالم من خلال تصنيف الأشياء في ثنائيات متقابلة مثل الخير والشر، الحياة والموت.

مارغريت ميد (Margaret Mead): قامت ميد بدراسات ميدانية في ساموا ونيو غينيا، وركّزت على دراسة كيف تؤثر الثقافة على سلوك الأفراد، خاصة في مجالات مثل الجنسانية و النضج الاجتماعي.

المبحث الثالث: مفاهيم رئيسية في التيار الثقافي
المطلب الأول: الثقافة باعتبارها نظامًا مغلقًا
من أهم المفاهيم في التيار الثقافي هو النسقية الثقافية، حيث يرى الأنثروبولوجيون أن كل ثقافة تشكل نظامًا مغلقًا من القيم والمعتقدات التي تعمل معًا لتحديد كيف يجب أن يتصرف الأفراد في المجتمع. الثقافة ليست مجرد ممارسات يومية، بل هي مجموعة من الأنماط المشتركة التي ينقلها الأفراد إلى الأجيال القادمة. ولذلك، تعتبر الثقافة جزءًا من الهوية الاجتماعية التي تحافظ على استمراريتها عبر الزمن.

المطلب الثاني: الرمزية والمعنى الثقافي
الثقافة ليست مجرد مجموعة من الممارسات المادية، بل تتضمن أيضًا الرموز التي تحمل معاني خاصة. هذه الرموز قد تكون كلمات، إشارات، أو حتى أشياء مادية تحمل دلالات اجتماعية معينة. من خلال هذه الرموز، يتم التواصل بين الأفراد داخل المجتمع، ويتم نقل القيم الثقافية عبر الأجيال. على سبيل المثال، الديانات والأساطير تعتبر جزءًا من الرموز التي تحدد فهم الأفراد للعالم من حولهم.

المطلب الثالث: تأثير الثقافة في تشكيل السلوك البشري
التيار الثقافي يرى أن الثقافة لها تأثير كبير في تشكيل سلوك الأفراد. إذ أن الأفراد لا يتصرفون وفقًا لغرائزهم البيولوجية فقط، بل يتأثرون بما هو سائد في مجتمعهم من قيم ومعتقدات. وبذلك، يتم تحديد المواقف الاجتماعية للأفراد، مثل الدين، الأسرة، والعمل، بناءً على ما تفرضه الثقافة من قواعد وأعراف.

الخاتمة:
التيار الثقافي في الأنثروبولوجيا يشكل تحولًا مهمًا في فهم السلوك البشري، حيث يركز على الثقافة كمفهوم أساسي لفهم الإنسان ومجتمعه. من خلال دراسة الأنماط الثقافية والرمزية، يساعد هذا التيار على فهم كيف تشكل القيم والمعتقدات سلوكيات الأفراد والجماعات. قد لا تكون الثقافة ثابتة، بل هي ديناميكية وقابلة للتغيير، مما يعكس مدى تأثير العوامل الثقافية في تنظيم حياة الإنسان.

المراجع:
الجابري، محمد عابد. (1990). مفهوم الثقافة: دراسة في التطور التاريخي للفكر الثقافي. المركز الثقافي العربي.
الزين، حسن. (1996). الأنثروبولوجيا الثقافية: مقدمة في دراسة الثقافات. دار المعرفة.
أبو زيد، نصر حامد. (1996). الخطاب الثقافي: مدخل إلى دراسة الخطاب العربي المعاصر. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
المسدي، محمد. (2001). الثقافة والهوية: دراسة في الأنثروبولوجيا الثقافية. دار الكتاب الجديد.
الطراونة، شاهر. (2011). دراسات في الأنثروبولوجيا الاجتماعية: مفهوم الثقافة وتطبيقاتها. دار الفكر للنشر.
 
أعلى